الأخبار

استراتيجية التحدي والاستجابة: دروس قيّمة من أرلوند توينبي

كنت أقرأ هذه الأيام عن فلسفة أرلوند توينبي في دراسة حياة الحضارات وكيف تنشأ وتتلاشى، وعن تنبؤاته المستقبلية بمصير الحضارات القائمة، الأمر الذي دعاني للتفكير بنظريته وإسقاطها على بيئة الأعمال حيث تعتبر مؤلفات توينبي مصدرًا للمؤرخين والفلاسفة والسياسيين وكذلك علماء الاجتماع والنفس. وحيث أن الأعمال التجارية هي مكوّن أساسي في أي حضارة ومجتمع فإن نظرياته تستحق النظر والاستفادة منها اقتصاديًا كذلك.

قدّر توينبي أنه على مدار التاريخ البشري كانت هناك 26 حضارة اندثرت معظمها بينما يحمل بعضها علامات الانهيار والتفكك، وقليل منها مازال صامدًا. انطلق توينبي من 3 تساؤلات، وهي: كيف ولماذا تنشأ الحضارات، وكيف ولماذا تتقدم، وكيف ولماذا تنهار؟

وفي محاولة لمقاربة تساؤلاته على بيئة الأعمال، فإنه طرح نظرية “التحدي والاستجابة” والتي مفادها أن نشأة الكيان إنما تحدث نتيجة تحدٍ ما، إما للبيئة أو للبشر أو كليهما، وينهار الكيان حينما يعجز عن الاستجابة لهذه التحديات. وإن أهم شرطين لحدوث هذا التفاعل يكون بوجود قوة إبداعية (أشخاص مبدعين)، وبيئة ملائمة لغاية أو غير ملائمة لها.

ولو نظرنا إلى التساؤل الأول في سياق الأعمال، فإن الشركات إنما تنشأ حسب نظريته كتفاعل بين التحديات والاستجابات. البيئة أو المجتمع يتحدى باستمرار أفرادًا مبدعين (رواد أعمال)، الذين يستجيبون لهذه التحديات من خلال حل المشكلات أو تلبية الاحتياجات. هذا يفتح الباب أمامهم لتحدٍّ جديد، ويتبعه استجابة جديدة ثم تحدًّ آخر ثم استجابة وهكذا. في ظل هذه الظروف، لا يوجد مجال للتوقف؛ فرائد الأعمال يجب أن يكون في حركة دائمة، وهذه الحركة المستمرة تدفع الشركة نحو النمو.

بالنسبة للتساؤل الثاني حول كيفية تقدم الكيانات ولماذا، يؤمن توينبي أن النمو الحقيقي والتقدم لا يقاسان بالتوسع الجغرافي أو التطور التقني فقط. بل يتجلى التقدم الحقيقي في عملية “التسامي”، حيث تتجاوز هذه العملية المكاسب المادية لتشمل إطلاق القدرات العقلية والإبداعية لمواجهة التحديات. يعتبر أن هذا التقدم يحدث من خلال الأفراد المبدعين الذين يستمدون دوافعهم من قناعات داخلية، وليس فقط من مكاسب مادية، حيث يلهمون مجتمعهم ويوجهونه نحو الارتقاء. بالتالي، يمكن اعتبار النمو إبداعًا مستمرًا يتطلب وجود نخبة من الأفراد المبدعين.

وعن تساؤله الثالث عن كيف ولماذا تنهار الكيانات، فقد رفض فكرة أن الكيانات تنهار وتنتهي بسبب عوامل  خارجية كاقتصادية أو سياسية أو تقنية والتي هي بالطبع من معزّزات النمو، ولكن من أهم أسباب الانهيار حسب رأيه هو خفوت الطاقة الإبداعية! حيث أنه في مرحلة النمو، تستجيب الكيانات بنجاح لسلسلة من هذه التحديات، بينما في مرحلة التفكك تفشل في تقديم استجابات فعّالة وإبداعية، فتحاول الرد على التحديات مرارًا لكنها تفشل بشكل متكرر فتُحبط وتفقد توازنها ثم تضعف فتستسلم لأنها تستجيب بطريقة لا تناسب التحدي فيظل التحدي بذاته قائمًا لا يهتز. وهنا أشار توينبي بأن الكيانات تموت بالانتحار (أسباب داخلية) وليس بالقتل (أسباب خارجية).

الوسيلة الذهبية

حين أتذكر قانون نيوتن الذي يقول إن لكل فعل ردة فعل مساوية لها في المقدار ومعاكسة لها في الاتجاه، يأتي ببالي نظرية التحدي والاستجابة هذه. ما يقودنا إلى أنه كلما واجهت الشركة تحديًا فعليها أن تستجيب بقوة تعادل حجم التحدي. بالمقابل، حين تحقق الشركة نموًا سيكون عليها لزامًا أن تنمو بمواردها الداخلية، فرائد الأعمال يجب أن يتعلم أكثر وفريقه ينمو ويتطور باستمرار لأنهم مقبلون على تحدٍّ جديد يتطلب مهارات أعلى مما كانوا عليه في المراحل الأولى. وهذه هو مكمن التحدي لرواد الأعمال وفريقهم، التعلم المستمر والاستجابة المبدعة والحكيمة المواكبة لحجم وسرعة التحديات.

في هذا السياق، يقول توينبي إنه كلما زاد التحدي، تصاعدت قوة الاستجابة، وهذا يؤدي في نهاية المطاف إلى ما يصفه بـ “الوسيلة الذهبية”. تتمثل هذه الفكرة في أن الكيان يواجه التحديات عبر سلسلة من الاستجابات التي قد تكون غير فعالة أحيانًا، ولكن من خلال التجربة والتعلم، يصل إلى الحل الأمثل الذي يقوده نحو التقدم والازدهار. إن كل شركة صغيرة أو كبيرة وحتى كل شخص يمر بمثل دورة التحدي والاستجابة هذه. لذلك، عندما تواجه تحديًا فهذا يعني أنك تتطور، وأن هذا التحدي بمثابة جسر للانتقال لمرحلة جديدة تتطلب شجاعة أكبر ومهارات إضافية وحلولًا إبداعية.

تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 80-90% من الشركات الناشئة تواجه الفشل في مراحل مختلفة من تطورها، بينما ينمو منها حوالي 10-20% ، وأقل من 1% تصل إلى مرحلة “اليونيكورن”. هذه الأرقام تسلط الضوء على أهمية التفاعل مع التحديات والقدرة على الاستجابة بفعالية كمفتاح للنجاح في عالم الأعمال بغض النظر عن أسباب الفشل الشائعة. حيث تتلخص أسباب الفشل في هذه المقالة في نقطتين رئيسيتين: ضعف القدرة على الاستجابة وضعف القوة الإبداعية وما يترتب عليهما من فقدان للتوازن والسيطرة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى