للحوكمة مدارس كثيرة ومنهجيات متعددة، وتختلف طبيعة الحوكمة مع اختلاف نوع الشركة وحجمها ومستهدفاتها، والحوكمة أيًّا كان شكلها فهي بمثابة العمود الفِقري للشركة، لأنها دعامة عملها المؤسسي والأساس التنظيمي لنجاحها بوجه عام، والحقيقة أن وضع نموذج حوكمة متوائم مع نوع الشركة يعد اليوم من أهم الجوانب التي يجب أخذها باهتمام وجدية قبل إنشاء الشركة وبعد تشغيلها، لما لها من أهمية في السوق الاستثمارية.
وقد أردنا في هذا المقال تسليط الضوء على حوكمة شركات الاستثمار الجريء وذلك لاختلافها وتباينها عن الشركات التقليدية الأخرى، حيث تتبنى هذه الشركات الكبيرة “التقليدية” هيكلًا تنظيميًا هرميًا أشبه بالهرم، تتربع في أعلاه القيادة التنفيذية المسؤولة عن اتخاذ القرارات الجوهرية وتحديد المستهدفات والاستراتيجيات للشركة، وفي أسفل الهرم يعمل المديرون المتوسطون والمشرفون والموظفون في الخطوط الأمامية، ولكلٍّ منهم مهام ومسؤوليات محددة، وغالبًا ما تقسم الشركات الكبيرة عملياتها التنفيذية إلى أقسام وظيفية، مثل: المالية والتسويق والموارد البشرية والمعاملات القانونية وغيرها، فيركز كل قسم على جانب معين من العمل، وهذا يضمن تركيز الخبرة العملية لتحقيق الأداء الأمثل.
فيما لو انتقلنا إلى شركات الاستثمار الجريء التي تكون في الغالب صغيرة أو متوسطة فمن الصعوبة البالغة أن تنتهج الشركة ذلك النهج الهرمي، وذلك لصغر حجم الشركة الناشئة ولسرعة نموها، كما أن معظم شركات الاستثمار الجريء تتسم بالسرعة في بدء نشاطها التجاري لأنها عادةً ما ترتبط بفرص استثمارية تفرض عليها السرعة في بدء ممارسة نشاطها التجاري، ومع تلك المرونة التي تتسم بها تلك الشركات اتجه كثير من منشئيها إلى اعتماد الهياكل القائمة على الفرق بدلًا من الهيكل الهرمي، حيث تعمل تلك الفرق المتعددة الوظائف بالتعاون والتنسيق فيما بينها في تنفيذ مشاريع محددة مما يعزز الابتكار والقدرة على التكيف والاستجابة بوجه أسرع لمتطلبات السوق المتغيرة، وهذه المنهجية مرنة للغاية، ولذلك تستمد شيئًا من الطاقات الإبداعية وتستعين بالموارد الخارجية عند الحاجة، وتعتمد اعتمادًا قويًا على التقنية في هيكلتها، فالتقنية هي حجر الزاوية في التنظيم الداخلي للشركات، وذلك من جهة توفر الأدوات والبرمجيات لإدارة المشاريع والتواصل والتعاون بين الموظفين، وتبسيط سير العمليات وتعزيز كفاءتها على الوجه الأمثل.
ومع ذلك، لا بد أن نقول على جهة التنويه بأنه لا ينبغي لشركات الاستثمار الجريء أن تُفْرِط وتبالغ في تطبيق المرونة إلى حد السيولة، بل عليها أن تلتزم بنظامها الأساس وعقد تأسيسها وتنظيمها الداخلي، ولا سيّما فيما يخص منظومة الصلاحيات، فصناعة القرار يجب أن تكون مركزية ومحددة في تنظيم الشركة، فليس من المقبول أن تُتخطى صلاحيات منصوص عليها في تنظيم الشركة، لأن هذه مرتبطة في النظام بمسؤوليات محددة، ولذلك ينبغي للقائمين على شركات الاستثمار الجريء وهم يعملون على صياغة تنظيمها الداخلي أن ينظروا بعين الاهتمام إلى قدرة الشركة على التكييف والتغيير السريع، ففي رأينا أن حوكمة شركات الاستثمار الجريء يجب أن تكون مرنة بما يكفي لاستيعاب التحولات السريعة في اتجاهات السوق وتفضيلات العملاء، مما يضمن بقاء الشركة قادرة على المنافسة.
ولعل من أفضل الحلول لبعض شركات الاستثمار الجريء أن تعتمد مبادئ الحوكمة الأساسية، فتعمد إلى دمج الهيكل الهرمي بالهياكل القائمة على فريق أو فرق، بحيث تضع أقسامًا رئيسية وتدمج عدة فرق داخل تلك الأقسام مما يقلل التكلفة ويسرع الإنتاجية، وذلك بالتوازي مع النظام الأساس للشركة وعقد تأسيسها وتنظيمها الداخلي.
ومن جهة أخرى فالموافقات الداخلية في الشركات الكبيرة ستكون في موضع مقارنة بشركات الاستثمار الجريء وذلك لأن طبيعة هذه الشركات الناشئة قائمة على المخاطرة والدخول في عمليات تمويل أو شراء حصص في وقت سريع، واعتماد نموذج الحوكمة التقليدي قد يبطئ من إتمام الموافقات الداخلية وفق ما يقتضيه الوقت، فالشركات الناشئة يتسم عملها الرئيسي في الاستثمار السريع وانتهاز الفرص الاستثمارية.
وعلى أية حال، فحوكمة شركات الاستثمار الجريء لها جوانب متعددة تؤثر في أدائها العام ونجاحها، سواءً أكان النموذج هرميًا تقليديًا أو كان قائمًا على أساليب مبتكرة، ولكن يتعين على الشركة تقييم الحوكمة بصورة متزامنة خلال عمليات مراجعات الأداء، وذلك لمواجهة التحديات ولتعزيز القدرة على التكيف مع النموذج أيًا كان شكله وهيكله، ومن التحديات المحتملة على سبيل المثال: تحقيق التوازن بين المخاطر والمكافآت، وإدارة تضارب المصالح، والتكيف مع تقلبات السوق، فكل ذلك يتطلب نهج حوكمة مرن مشتق من طبيعة شركات الاستثمار الجريء، ومتى وجدت ثقافة الابتكار في الشركة أمكن إيجاد الحلول الفعالة، فالابتكار لا يقتصر فقط على استثماراتها ولكن يشمل أيضا نماذج الحوكمة الخاصة بها.
وواقع التحديات في شركات الاستثمار الجريء اليوم يعزز قناعة راسخة وهي أن هذه الشركات لا غنى لها عن ابتكار آليات حوكمة تتناسب مع حجمها وفريقها واستراتيجيتها بصورة متكاملة، ولابد أن تتلاءم تلك الآليات مع الأنظمة التي تخضع لها سواءً أكانت أنظمة حكومية أو تنظيمات داخلية سابقة مع إمكانية تعديل أي قرارات أو أنظمة داخلية باستصدار قرار شركاء لتعديل عقد التأسيس وتبني فكرة حوكمة جديدة. وهكذا يمكن لشركات الاستثمار الجريء تغيير نهجها التقليدي بعد النظر الفاحص في كافة جوانبها التجارية والقانونية.