بقلم إسلام حسين، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “انفيجو”
ربما لم يُدرك كارل بنز تمام الإدراك، عندما اخترع أول سيارة في العام 1886، الأثر الذي سيحدثه في حياة الناس واقتصادات الدول؛ فمنذ ذلك الحين، ظلّت المركبات تدور في صميم عجلة التقدّم العالمي، لتنقل الأفراد والبضائع بلا توقف على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم.
وبينما سعى مصنّعو السيارات في سبل جديدة وراء النمو، رأينا ظهور نماذج تشغيلية جديدة منحت جميع الأطراف العاملة على امتداد سلسلة القيمة في قطاع السيارات، الأولوية، أما العملاء فكانوا آخر اهتمامات تلك النماذج. لهذا السبب، لا تنتقل السيارة اليوم من المُصنِّع إلى العميل انتقالًا مباشرًا، ولكن لا بدّ لها أن تمرّ على العديد من اللاعبين، كمصنّعي الأجهزة الأصليين والبنوك وشركات التأمين، وغيرها. ومع انخراط كل طرف في سلسلة القيمة، يرتفع سعر السيارة الذي لا يتحمّله سوى العميل.
الأمر نفسه ينطبق على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي نجد أن افتقارها إلى منظومات جيدة ومتكاملة من وسائل النقل العام يشجّع الأفراد على التفكير في تملّك السيارات، إلا أن ارتفاع التكاليف يقف رادعًا أمامهم، ما يجعل معدل انتشار المركبات في المنطقة منخفضًا؛ فالمعدل في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومصر، مثلًا، 312 و305 و49 مركبة لكل ألف نسمة على التوالي، وذلك مقارنة بمعدل يبلغ 797 في الولايات المتحدة. وكانت فئة سيارات الركاب في المملكة شهدت ارتفاعًا بلغ 1.59 في المائة ليصل إلى 156 مركبة لكل 1,000 نسمة، ما يدلّ على كِبر حجم الفرص التي تنطوي عليها السوق والتي ينبغي السعي إلى تلبيتها عبر الحلول المبتكرة.
وثمّة عددٌ من العوامل التي تساهم في هذا التوجّه، ففي هذه المنطقة تُعتبر الدفعة الأولى بنسبة 20% شرطًا أساسيًا لتملك سيارة، ما يؤدي إلى ارتفاع التكلفة الأولية. وفي المملكة العربية السعودية، يجب ألا تزيد نسبة دَين الفرد إلى دخله على 30% من أجل السماح له بالتقدّم بطلب الحصول على قرض لتملك سيارة. كذلك فإن الإنفاق على الصيانة والخدمة والتأمين يصل بمجمله إلى 50% من سعر السيارة، كما أن خسارة 60% من قيمة السيارة على مدى السنوات الخمس الأولى من عمرها تدفع مشتري السيارات المحتملين إلى التفكير مليًا في قرارات الشراء وما تستتبعه هذه القرارات من خطوات.
إن امتلاك سيارة ما قد يخلق العديد من الفرص لمجتمعات بأكملها؛ ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تُظهر الدراسات أن امتلاك سيارة ظلّ على مدار الخمسين عامًا الماضية من بين أقوى المزايا الاقتصادية التي تتمتع بها الأسر. إلا أن التكلفة المتزايدة لتملك السيارة والمخاطر المرتبطة به أفقدت خيار الشراء المباشر بريقه الجذّاب، ودفعت بالأفراد اليوم إلى المطالبة بمزيد من المرونة وفتح سبل جديدة أمام تمكينهم من الحصول على سيارة جديدة. وفي واقع الحال، تُظهر دراسات حديثة أن الشباب باتوا يفضلون “الحصول” على السيارات، بدلًا من “تملّكها”. ومع الاتساع الحاصل اليوم في تطبيق مفهوم تقديم الخدمات حسب الطلب، لن يكون من المُستغرب أن يتمكن الأفراد من الحصول على سيارة عبر الهاتف المحمول بسهولة فائقة.
لقد أدّى الارتفاع الهائل في الاعتماد على الهواتف الذكية على مدار العقد الماضي إلى إحداث تغيير كامل في طرق حصولنا على مختلف الخدمات. ففي قطاع النقل، مثلًا، أحدثت خدمات النقل الجماعي مثل “أوبر” و”كريم” تحولًا كبيرًا في النقل الحضري، لتلبي احتياجات شرائح مجتمعية واسعة. وفي السياق نفسه، لعبت الأجهزة المحمولة دورًا محوريًا في إحداث التحوّل عبر وضع الأفكار المبتكرة في أيدي المستهلكين، بدءًا من خدمات توصيل البقالة والاحتياجات المنزلية، وصولًا إلى الحصول على خدمات الصيانة والأدوية وخلاف ذلك من متطلبات الحياة.
أما قطاع السيارات، الذي ظلّ يواصل العمل في الغالب وفقًا لنموذجه التقليدي، فشهد حاجة ملحّة إلى تسريع الابتكار، وإحداث تجربة جديدة للعملاء واعتماد طرق عمل جديدة، وذلك بالنظر إلى انخفاض المبيعات وارتفاع تكاليف التشغيل.
وجاءت خدمة اشتراك تأجير السيارات، والتي تُقدّم عبر الهاتف المحمول، لتساعد في إضفاء الطابع الرقمي على النموذج التقليدي المتبع في قطاع السيارات، فربطت التجار وشركات التأجير بالعملاء ربطًا مباشرًا، وأزالت التكاليف غير الضرورية وساعدت في نقل المخزون بطريقة أسرع من قبل، وأضافت الكثير من المزايا على فكرة الحصول على سيارة؛ فتخيل مثلًا أن يتمّ توصيل السيارة إلى عتبة منزلك في غضون 24 ساعة، أو حتى ما هو أكثر إثارة للاهتمام من ذلك، كتبديل السيارة كل شهر، أو ترقية نوعها أو التغيير إلى طراز أبسط، بحسب احتياجاتك.
وإذا ما رجعنا إلى نموذج “التملّك” التقليدي نجد أن الحقيقة القاسية تكمن في أن الفرد لا يستطيع تسجيل سيارته باسمه حتى ينتهي من سداد أقساطها التي عادة ما تمتدّ إلى خمس سنوات، حتى إن ادعى أنه “يمتلكها”. وحتى ذلك الحين، تكون السيارة قد خضعت لإهلاك كبير في قيمتها، الذي إذا أضفت إليه مصروفات الفائدة والصيانة والخدمة والتأمين وغيرها، تجد نفسك وقد انتهى بك المطاف خاسرًا!
لذلك، يمكننا القول إن ظهور نموذج اشتراك تأجير السيارات قد أحدث تغييرًا في قواعد اللعبة، وخلَق مرونة رائعة تناسب الراغبين في الحصول على سيارة دون تحمل أعباء تملّكها.
وبالرغم من أن نظام اشتراك تأجير السيارات، ما زال ناشئًا، فهو يضع العملاء في المرتبة الأولى، مع ضمان انتفاع الأطراف على امتداد سلسلة القيمة. ومن المتوقع أن تصل قيمة خدمات اشتراك تأجير السيارات في الولايات المتحدة وأوروبا إلى ما يتراوح بين 30 و40 مليار دولار بحلول العام 2030، أي نحو 15% من إجمالي مبيعات السيارات الجديدة. ولا عجب في أن علامات تجارية مثل بورشه وفولفو وأودي لديها، هي وغيرها، خدمات اشتراك تأجير السيارات الخاصة بها، وأنها أضحت تتحوّل في جوهر عملها إلى تقديم التنقل كخدمة.
وتساهم هذه الشركات، بوصفها قائمة على الرقمنة، في خلق ثروة من الفرص لوكلاء تجارة السيارات، ومصنعي الأجهزة الأصليين، وجهات التمويل، وحتى شركات تأجير السيارات نفسها. ما يُسرّع في تحويل الأطراف العاملة في قطاع السيارات من العمل على أرض الواقع إلى العمل ضمن منصات رقمية. وعلاوة على ضمان الحركة المستمرة للمخزون، يتمتع الشركاء العاملون في هذا المجال بإمكانية الوصول إلى بيانات واسعة تتيح أفكارًا متعمقة ومبتكرة حول ما يفضله العملاء من أمور متغيرة، ما يعني منح هؤلاء الشركاء قدرة أكبر على التخطيط، وتمكينهم من خلق مزيد من الكفاءات للقطاع.
إن اشتراك تأجير السيارات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأفغانستان وباكستان، التي تُعدّ شعوبها من بين الأصغر سنًا في العالم، من شأنه أن يفتح آفاقًا أرحب أمام الشركاء تؤدي إلى عالم من الفُرص، كما يخلق مزيدًا من فرص العمل أمام الشباب، ويحفّز إقامة الشراكات والتواصل بين أصحاب العقول اللامعة، نظرًا لتيسير التنقل وجعله في المتناول بتكلفة معقولة. وفي عالم ما بعد الجائحة، سوف يساعد تمكين الأفراد من الحصول على السيارات، في إنشاء مساحات آمنة، تحول دون الاعتماد المفرط على وسائل النقل العام المتسمة بالازدحام.
لذلك، وفي المرة القادمة التي تريد فيها الجلوس خلف عجلة القيادة في سيارة جديدة، لن يكون عليك التواصل مع وكلاء السيارات والبنوك وشركات التأمين وغيرها من الجهات، وستكتفي بتنزيل تطبيق ذكي والحصول على سيارة تصلك إلى باب منزلك.