مقالات

نماذج المصرفية المفتوحة: البرازيل

في شهر أغسطس عام 2019، قدم البنك المركزي البرازيلي اقتراحًا لتبني المصرفية المفتوحة في البلد اللاتيني وتنظيمها من المؤسسات المالية المرخصة سواء كانت من البنوك أو خدمات المدفوعات أو غيرها من المؤسسات، وقد حصل الاقتراح على الموافقة رسميًا في يناير 2020، ومع وصول شهر مايو بدأ تنفيذ المرحلة الأولى من التحول إلى المصرفية المفتوحة.

عمل البنك المركزي البرازيلي على إعلان اللوائح ومناقشتها ومراجعتها مع المؤسسات المالية المرخصة وتغييرها من أجل الوصول لميثاق ولوائح تنظم عملها وتجعله أكثر سلاسة في الوقت الذي تحافظ فيه على خصوصية المستخدمين – تمتلك البرازيل نظام دخول موحد يمكن أي شخص من ربط حساباته البنكية مع حسابه على المنصة الحكومية، كما تتيح ربط الحسابات البنكية معًا.

هذا القرار ساهم بتحول كبير في قطاع التقنية المالية في البرازيل، فقد أصبح أي شخص بإمكانه الدفع لغيره بنفس اللحظة من أي حساب بنكي لآخر خاصة مع تدشين خدمات الدفع اللحظي PIX – تتيح الخدمة لأي شخص يمتلك حساب بنكي من الدفع لأي خدمة أو لشراء أي سلعة من خلال مسح QR أو ادخال رمز/ رقم خاص بصاحبها، أو ارسال واستقبال الأموال في نفس اللحظة مهما كان البنك المرسل أو المستقبِل.

مستقبل جديد للتقنية المالية

تمكن الشخص في البرازيل من الاستغناء عن أي خدمات دفع أخرى متوفرة طالما يمتلك حسابًا بنكيًا، ووفر على نفس الكثير من الرسوم الخاصة بخدمات الدفع وتحويل الأموال المعتادة، كون PIX لا يغرم الشخص أي سنت عند الدفع ونقل الأموال وهو مجاني بالكامل. وعندما يريد استخدام خدمات مالية أخرى، فهو يستخدمها لمزايا إضافية وليس لأمور الدفع وتحويل الأموال. ويجدر القول إن منصة بوابة ترابط البحرينية تحاول انتهاج نموذج مشابه نوعًا ما من خلال تقديم حلول الدفع بسلاسة وبتكاليف أقل، إلا أنها ليست مجانية على العكس مع PIX ونظام المصرفية المفتوحة في البرازيل.

لكن هذا الأمر لم يتوقف هناك، فقد ذهبت المصرفية المفتوحة لتمهد الطريق لظهور عشرات البنوك الرقمية وشركات التقنية المالية في البرازيل والتي تكتسب قوتها من نظام المصرفية المفتوحة وإمكانية عملها منفردة أو بربطها مع الحسابات البنكية الأخرى، لدرجة أن خدمات مثل باي بال تجد نفسها عاجزة أمام التطور الكبير في هذا القطاع مع تبني المصرفية المفتوحة وانعدام الرسوم للخدمات الأخرى تحفيزًا لاستخدامها، وأصبحت تحاول تبنّي خدمات مثل PIX لتحافظ على مكانتها وتوفر الحوالات المالية داخليًا بلا رسوم.

فإذا كان أحد ما يرغب بدفع ثمن شراء ثلاجة ويمتلك حسابًا بنكيًا، لماذا يذهب إلى باي بال مثلًا؟ فبدلًا من أن يدفع عن طريق باي بال وتقوم الشركة بتحصيل رسوم دفع منه، بإمكانه الدفع مباشرة عن طريق خدمة PIX مثلًا دون أي رسوم! ومن هنا بدأت تظهر نماذج جديدة لشركات التقنية المالية لتخطي هذه العقبة، وتحقيق ربحية من مزايا أخرى وليس من عملية الدفع نفسها؛ حيث ظهرت شركات تمنح “استرداد نقدي” على السلع لتحفيز الناس على استخدام خدمة الدفع الخاصة بها على سبيل المثال والاستفادة من هذا الأمر بتحقيق دخل من الشركاء.

وساعدت المصرفية المفتوحة شركات مثل Nubank، شركة التقنية المالية الأكبر في أمريكا اللاتينية وتجاوز قيمتها أغلب البنوك اللاتينية، على التوسع أكثر. كذلك ساهمت بظهور بنوك رقمية أخرى وعزز من تواجد بنوك أخرى لتأدية كل المهام كالبنوك التقليدية؛ مثل Neon و Altr وهي بنوك متكاملة الخدمات وتوفر جميع الخدمات البنكية التقليدية لكنها افتراضية بالكامل – توفر هذه البنوك خدمات الدفع الفوري مثل PIX وخدمات استقبال وتحويل الأموال من وإلى أي حساب بنكي آخر وكذلك توفر لمستخدميها بطاقات دفع بلاستيكية وافتراضية توفر جميع مزايا نظيراتها من البنوك التقليدية.

كما أن تبني المصرفية المفتوحة وفر للمستخدمين حلولًا مميزة للبقاء على دراية بوضعهم المالي، وهي أفكار تحاول شركات تقنية حديثة تطبيقها مثلما ترغب دراهم السعودية بذلك من خلال ربطها لحسابات المستخدمين معًا عبر منصة واحدة تساعدهم بفهم وضعهم المالي وإدارة مصاريفهم، لكن هذا الأمر لن يحتاج شركات خاصة في البرازيل كون أي شخص بإمكانه ربط حساباته البنكية معًا من خلال البنك المُستخدم، وبالتالي يتيح هذا الأمر له معرفة جميع مصاريفه ونفقاته من مكان واحد حتى لو لم يستخدم حسابتهم البنكية الأخرى بشكل يومي.

ويأتي هذا كله في الوقت الذي يمنع فيه مشاركة أي بيانات خاصة بالمستخدم بين الجهات المختلفة، فالبيانات الممكن مشاركتها هي البيانات التي يسمح المستخدم نفسه بالوصول إليها ويمنح الأذونات لها، وبالتالي تكون فرصة انتهاك بيانات المستخدمين أو نقلها شبه معدومة خاصة وأن خوادم المؤسسات المختلفة تتواجد داخل الدولة وتخضع لنظام حماية قوي وتتوافق مع لوائح الأمن السيبراني فيها، على العكس مع بعض شركات المصرفية المفتوحة التي تعتمد على خوادم خاصة وهي المشكلة الأكبر التي تهدد المصرفية المفتوحة بالحديث عن إمكانية الوصول لبيانات المستخدمين.

أما على المستوى الحكومي، فقد جعلت المصرفية المفتوحة فهم الأمور المالية للناس أكثر سلاسة من أي وقت مضى، فمن خلال هذه التقنية أصبحت طريقة الحصول على البيانات المالية لحظية وسريعة وبالتالي معرفة الحالة الضريبية لن تحتاج وقت ويمكن مباشرة ادراكها من خلال نظام موحد ومتكامل.

ويمكن القول إن الميزة الأبرز لهذا التحول هو الاستغناء عن الدفع النقدي بشكل شبه كامل، فرغم كون البرازيل من البلدان النامية إلى أن التعاملات الرقمية للمدفوعات تتجاوز نسبتها العديد من الدول المتقدمة. فعلى سبيل المثال، كنت أقوم بجميع تعاملاتي المالية في البرازيل لأكثر من شهرين دون امتلاك أي ريال برازيلي في جيبي، وكل ذلك عن طريق بطاقات الدفع أو الحساب البنكي، فحتى عربة حلوى “شعر البنات” و “البوظة” على الطريق كانت تستخدم المدفوعات الرقمية، وبائع الخضار والفواكه في الشارع كان يقبل حوالات PIX كبديل للدفع النقدي وهو الحال مع سائقي سيارات الأجرة أو خدمات النقل الأخرى، أما عن المواقع الإلكترونية والمتاجر بكافة أنواعها فقد كانت جميعها تقبل الدفع من خلال التحويل الفوري أو بطاقات الدفع مثل فيزا وماستركارد؛ من سوبرماركت لمحلات الخضار وحتى صالونات الحلاقة وغيرها، والأغرب من ذلك أن الدفع عند الاستلام في طلبات المطاعم على سبيل المثال يتم عن طريق البطاقات البلاستيكية، فكل سائق يصطحب معه جهاز نقطع الدفع المتنقلة لجعل الدفع أكثر سلاسة للزبائن.

ختامًا

ذكر البنك المركزي البرازيلي في اقتراحه المقدم في أغسطس 2019 بأن المصرفية المفتوحة ستساعد على الابتكار، وهو ما حدث بالفعل بوقت قصير جدًا كونها غيرت ملامح التعاملات المالية في البرازيل لتصبح معها الدولة اللاتينية من أكثر البلدان ابتكارًا في هذا القطاع حول العالم؛ حيث تمتلك الدولة نحو 1,500 شركة تقنية المالية ناشئة منها 12 شركة تتجاوز قيمة كل منها مليار دولار (يونيكورن).

والأهم من هذه الأرقام كلها هي الفائدة والتجارب الناجحة التي تقدمها الشركات للجمهور من خلال تحويل جميع التعاملات المالية لتكون أكثر سلاسة وأقل تكلفة مقارنة مع أي وقت مضى.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى