شرعت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة في رحلة تحويلية غير مسبوقة لتنويع اقتصادها وتعزيز ثقافة الريادة والابتكار، ونفذت الحكومة سياسات ومبادرات مختلفة لدعم ورعاية المواهب الريادية بما في ذلك الإصلاحات التنظيمية، ودعم التمويل، والحاضنات والمسرعات، والتعليم وتنمية المهارات، والتعاون مع الشركاء الدوليين. تهدف هذه الجهود إلى إنشاء منظومة نابضة بالحياة تعزز المواهب الريادية، وتجذب الاستثمار، وتدفع النمو الاقتصادي من خلال الابتكار وريادة الأعمال.
ومن خلال متابعتي لشؤون ريادة الأعمال في المملكة والتواصل مع بعض رواد الأعمال والمهتمين بهذا المجال لاحظت وجود عامل مشترك يتعلق بالنظرة الشاملة لمفهوم الابتكار، والذي يعد المحرك الرئيس لنجاح العمل الريادي.
الابتكار هو مفتاح نشاط ريادة الأعمال لأنه يسمح للأفراد والشركات بتمييز أنفسهم في السوق من خلال تقديم منتجات أو خدمات أو حلول فريدة من نوعها تمكنهم من تلبية احتياجات العملاء المتغيرة، وتحسين الكفاءة، والبقاء في صدارة المنافسة، واغتنام الفرص الجديدة للنمو والنجاح. وأن تكون مبتكرًا يعني أن تكون قادرًا على التفكير الإبداعي وتوليد أفكار أو مناهج أو حلول جديدة لها قيمة وتحدث تغييرًا إيجابيًا. إنه ينطوي على تحدي التفكير التقليدي والمخاطرة والانفتاح على التجريب والتعلم من الفشل. أن تكون مبتكرًا يتطلب أيضًا القدرة على التكيف مع الظروف المتطورة، واحتضان التقنيات الجديدة، والسعي باستمرار إلى التحسين والتقدم في مختلف جوانب الحياة، سواء في الأعمال التجارية أو العلوم أو التقنية أو الفنون أو غيرها من المجالات.
ملاحظات حول رواد الأعمال
أول ملاحظة تخص النوع الأول من رواد الأعمال وهو ذلك الذي يعمل على “استيراد” الابتكارات واستخدامها كمحرك لمشروعه الريادي، والذي لا يعني بحد ذاته أن تكون مبتكرًا. يشير استيراد الابتكار إلى تبني أو دمج ابتكار أو فكرة موجودة من مصدر أو بلد آخر، في حين أنه يمكن جلب فوائد مثل تحسين الكفاءة أو إدخال مفاهيم جديدة في سياق مختلف، فإن الابتكار الحقيقي يتضمن عادةً إنشاء أو تطوير شيء جديد أو محسن بشكل كبير.
ويمكن وصف هذا النوع من الرواد من خلال عدسة “نظرية التبعية”؛ نظرية التبعية هي إطار اجتماعي سياسي يدرس العلاقات بين البلدان المتقدمة والنامية ويشير إلى أن المجتمعات النامية غالبًا ما تصبح معتمدة على الدول الأكثر تقدمًا، مما يؤدي إلى نقص الاعتماد على الذات والقدرة المحدودة على الابتكار المستقل.
وفي سياق الابتكار، تجادل نظرية التبعية بأن بعض الأفراد في مجتمعات معينة قد يتبنون عقلية الاعتماد على المصادر الخارجية للأفكار والتقنيات والحلول بدلاً من تعزيز قدراتهم الإبداعية الخاصة. ويمكن أن تنشأ هذه العقلية بسبب العوامل التاريخية أو الاقتصادية أو الثقافية التي شكلت تصور المجتمع لإمكاناته الخاصة للابتكار.
أما النوع الثاني فهو الفرد المبتكر الذي يخشى أن ابتكاره لن ينجح بسبب عدم قيام أحد بذلك من قبل، وغالبًا ما يعاني من الشعور بالشكوك والمخاطر، وينبع هذا الخوف من عدم وجود سجل حافل لابتكاره أو مفاهيمه المبتكرة في أماكن أخرى من العالم. ومع ذلك، من المهم إدراك أن الابتكارات الرائدة غالبًا ما تظهر من منطقة مجهولة، ويجب أن يتبنى هؤلاء الأفراد أفكارهم ووجهات نظرهم الفريدة، وأن يجروا بحثًا وتحليلًا شاملين، وأن يسعوا للحصول على تعليقات من المستشارين الموثوقين، وأن يطوروا خطة مدروسة جيدًا للتخفيف من المخاطر. ومن خلال تبني احتمالية الفشل كتجربة تعليمية والمثابرة من خلال التحديات، يمكنهم زيادة فرصهم في النجاح وربما تقديم مساهمات كبيرة في مجالات تخصصهم لا تخدم مجتمعاتهم فحسب بل العالم أجمع.
أما النوع الثالث فهو يمثل ذلك الفرد الذي يؤمن بنفسه ويثق في قدراته ويتمتع بثقة ثابتة بالنفس. وهو يمتلك مزايا المرونة والشجاعة والمبادرة والمثابرة والاعتزاز بثقافته الأصيلة والقدرة على إلهام الآخرين بأفكاره المبتكرة.
تبرز ابتكارات هذا النوع من الرواد على أنها فريدة ومنقطعة النظير، حيث تقدم للعالم حلولًا جديدة ومفاهيمًا رائدة وأفكارًا تحويلية لم يسبق لها مثيل. زلا يشكك هذا النوع من الرواد بقدراته وبإمكاناته أو بأن نظراءه من الجزء الآخر من العالم أفضل وأكثر قدره على الابتكار والريادة. قد يعتقد البعض بأن هذا النوع من الرواد محدود في مجتمعنا، لكن دعني أخبرك عزيزي القارئ بأن آباءك وأجدادك هم أفضل مثال على هذه الفئة من الرواد، فقد ساهموا بالعديد من الابتكارات التي تعكس أسلوب حياتهم البدوي والتكيف مع البيئة الصحراوية القاسية،وطوروا تقنيات مبتكرة للحفاظ على المياه مثل نظام الري بالأفلاج لتوزيع المياه بكفاءة لأغراض الزراعة، وابتكروا أبراج الرياح (البراجيل) ذات السمات المعمارية المميزة والتي تسخر تيارات الهواء الطبيعية للتهوية والتبريد، كما أتقنوا تربية الإبل وركوب الخيل، مما خلق طرقًا مرنة وسريعة للنقل في الصحراء. علاوة على ذلك، فإن معرفتهم بالنباتات الطبية والعلاجات العشبية التقليدية تُظهر ابتكاراتهم في الرعاية الصحية وممارسات العلاج الطبيعي.
ويعد بناء السفن الشراعية ذات السمات المميزة والتي لعبت دورًا حيويًا في التجارة والنقل ابتكارًا مهمًا لأسلافنا في شرق وغرب المملكة. ومن الجدير بالذكر بأن شح الموارد أو العوائق النفسية لم تمنع أسلافنا من الابتكار أو التردد في استكشاف أفكار جديدة لم يكن لها سابق، بل عززوا عقلية تقدّر التجريب وتشجع التفكير خارج الصندوق وثقافة التعلم والتكيف المستمر.
ولعل أفضل مثال للتأكيد على هذا الواقع المتأصل في ثقافتنا هو تأكيد سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حينما أشار إلى انجازاتنا في ظل الظروف الصعبة وشح الموارد حينما قال “الملك عبد العزيز ورجاله الذين عملوا معه في كل أنحاء السعودية عندما أسسوا الدولة لم يكن بها نفط، وأداروا الدولة بدون نفط، وعاشوا في الدولة بدون نفط، وتحدوا الاستعمار البريطاني، ولم تدخل بريطانيا شبرًا من السعودية بدون نفط”.
ولا تقتصر منجزاتنا في الابتكار والإبداع على الماضي فحسب، بل خرج الكثير من السعوديين مؤخرًا بالعديد من الابتكارات الفريدة التي الهمت العالم سواء في قطاع النفط والغاز، وتقنيات تحليه المياه، والطب والصناعات الدوائية، والصناعات الدفاعية، والعديد من القطاعات والصناعات الأخرى. والأهم من ذلك نحن بصدد إلهام العالم في السنوات المقبلة من خلال مشروع المستقبل الجديد (نيوم) الذي رسم ملامحه سمو سيدي ولي العهد ويساهم في تحقيقه نخبة من المبتكرين والمبدعين السعوديين لتقديمه للعالم في المستقبل القريب.
في النهاية أدعو كل مهتم بالابتكار وريادة الأعمال أن يحتضن المفهوم الحقيقي للابتكار، وأن يفتح الإمكانات اللامحدودة بداخله لإحداث تغيير ذا مغزى وتشكيل المستقبل لبلاده وللعالم أجمع، وأن يتذكر بأننا لا نختلف كثيرًا في قدراتنا عن أسلافنا فبالنهاية نحن من يحمل جيناتهم وصفاتهم الوراثية، لذلك عندما تبتكر أو تفكر بالدخول في عالم ريادة الأعمال “أطلق السعودي اللي بداخلك”.
شاركنا هذا المقال مشكورًا، الدكتور فارس مساعد الشريم، عضو هيئة التدريس في جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، الطبيب وباحث الدكتوراة في تعليم ريادة الأعمال في الولايات المتحدة.