مقالات

فلسفة الابتكار المفتوح والسيدة أناليتا

هناك إمكانات عديدة تطبقها الشركات الناشئة لتعظيم أرباحها، ومعظم هذه الإمكانات تتوسط فيها البنية التحتية الرقمية كعمود فقري لابتكار خدمات ومنتجات جديدة.

في هذه المقالة سأتحدث عن فلسفة الابتكار المفتوح كأحد أهم هذه الإمكانات، وعن التغييرات التي حدثت في منهجية الابتكار التقليدي، والفرق بين الابتكار الرقمي والابتكار المفتوح، وأخيرًا سأعرض كيف يمكن للابتكار المفتوح أن يكون أداة فعّالة لازدهار الشركات الناشئة.

بينما كنت في لندن التقيت بروفيسورة اسمها أناليتا تعمل في مختبر طبي في إحدى الجامعات حيث دار بيننا هذا النقاش القصير:

تقول كنت أعمل في إحدى الشركات لتطوير تقنية طبية جديدة باستخدام الذكاء الاصطناعي، واستغرق البحث والتطوير لهذه التقنية عدة سنوات، وكنا نولي اهتمامًا كبيرًا للابتكار في المختبرات الداخلية للشركة. بعد فترة، أدركنا أن تركيزنا على الابتكار التقني ليس كافيًا وأننا بحاجة إلى المعرفة والخبرات من خارج الشركة. لقد علّقنا المشروع لفترة ثم كان من سياسة الشركة لاحقًا أن تنفتح على شبكات معرفة خارجية.

سألتها: وكيف غيّر ذلك من عملكم؟ قالت “أسسنا شبكة معرفة لتعزيز التعاون والتعلم المتبادل مع أكاديميين وخبراء خارجيين، حيث نتبادل المعرفة والأفكار والتجارب المختلفة من خلال ورش عمل وأبحاث ومقالات بانتظام. وأصبح تشارك المعرفة هو البنية التحتية التي نبني عليها الابتكار بدلًا من الاعتماد فقط على التطوير داخل المختبر”.

ثم قلت “وماذا عن القضايا التنافسية وسرية الأفكار؟”، فقالت “بالطبع هناك اتفاقيات بشأن الحفاظ على السرية وحقوق الملكية الفكرية. ومع ذلك، فإن تشارك المعرفة في الأوساط الأكاديمية يعتبر معرفة عامة مفيدة لعملية البحث والتطوير”.

كان هذا بالفعل مثالًا على الابتكار المفتوح، وقد دعاني هذا النقاش القصير لإجراء بحث حول الموضوع وكتابة هذه المقالة لأشارككم المعرفة. وقبل أن نغوص بفلسفة الابتكار المفتوح كمنهجية داعمة لنجاح الشركات الناشئة دعوني أعرض لكم التغييرات التي حدثت في نموذج الابتكار التقليدي.

في النموذج التقليدي يُحدد الابتكار بالأفراد المبتكرين الذين لديهم أفكارًا خلّاقة وقادرين على التفكير خارج الصندوق، فتقوم الشركات المبتكرة باستثمارات بالعنصر البشري، حيث تتنافس للحصول على أفضل العقول وتوظيف المبتكرين لأنهم يفكرون بطريقة غير تقليدية عندما تحتاج الشركة تصميم منتج جديد. أيضًا، كان الابتكار عملية سرية للغاية، فيجب ألا يعرف المنافس ما تفعله أو كيف يحدث حتى لا يسرق الفكرة ويتفوق فيها.

سمح هذا النهج للشركات بتحقيق قيمة في منتجاتها المبتكرة وبالتالي ارتفاع العوائد. ولكن إحدى أهم المشاكل التي واجهتها الشركات باتباع هذا النهج تتمثل بعدم قدرتها على تلبية احتياجات العملاء بشكل دائم لأن هذه العملية بطيئة جدًا ومكلفة ومقيّدة بما هو متاح من موارد بشرية يعملون داخل الشركة، حيث تحتاج الشركة لجمع وإدارة مجموعة متنوعة من المواهب والحفاظ عليها. علاوة على ذلك، نسبة قليلة جدًا من المنتجات المبتكرة تخرج للسوق وهذا يُشكّل تحديًا في عملية البحث والتطوير R&D التي تتطلب مرور المنتج بعدة مراحل من التجربة والاختبار قبل اعتماده، وإذا لم يصل المنتج للسوق فهذا يعني هدر الكثير من المال والوقت والجهد. وهذه أهم تحديات نموذج الابتكار التقليدي والمعروف بالابتكار المغلق.

تغييرات طرأت على الابتكار

اليوم عمليات البحث والتطوير أصبحت أكثر تعقيدًا من ذي قبل، وأصبح من الصعب تقديم منتجات جديدة إلى السوق باتباع نهج الابتكار المغلق وحده. أحد الأسباب هو وجود سوق عمل أكثر ديناميكية، كذلك من الصعب الاحتفاظ بالمواهب في الشركة وهذان يجعلان الابتكار أكثر كلفة. فالذي حدث هو أن الابتكار لم يعد من اختصاص منظمة كبيرة أو مختبرات البحث والتطوير أو عدد قليل جدًا من الأفراد المتمكنين داخل الشركة. إنما أصبح الابتكار الذي يحقق عوائد سوقية ضخمة يحدث في أماكن أخرى؛ في مسرّعات الأعمال والجامعات ومراكز الابتكار التي لديها وصولًا واسعًا لأسواق عالمية وشبكة ممتدة من خبراء حول العالم مستعدين لمشاركة المعرفة وضخ أموال للاستثمار في الابتكار. ما يعني أنه من الصعب أن تكون الشركة منافسِة ومبتكرِة من خلال النظر فقط لإمكاناتها الداخلية، ومن هنا ظهر مفهوم الابتكار المفتوح للتصدي لهذا التحدي.

حسناً.. ماذا يُقصد بالابتكار المفتوح؟

في سياق الشركات الناشئة يعرف الابتكار المفتوح بأنه نموذج يتطلب من الشركات استخدام الأفكار الخارجية بالإضافة إلى الأفكار الداخلية لتطوير منتجاتها التقنية وتسريع الابتكار. وهذا يعني أنه من الصعب حدوث الابتكار داخل حدود الشركة فقط. فإذا أرادت إحدى الشركات البقاء على قيد الحياة فعليها إعادة التفكير في مفهوم الابتكار، وكيف يحدث، وكيف تُوّلد القيمة في ابتكار منتجات جديدة.

ولتحقيق ذلك، يجب على الشركات فتح القنوات نحو الخارج لجعل عملية الابتكار موزّعة. إن الابتكار التقليدي يركز على الإمكانات الداخلية، ولكن في تبني مفهوم الابتكار المفتوح فإن التطوير يحدث في الخارج والداخل معًا. الشركات الناجحة اليوم أصبحت تتبادل المعرفة وتتفاعل أكثر مع المصادر الخارجية والشبكات والموردين والمنافسين وحتى العملاء لتطوير خدماتها. كل ذلك يتمركز حول علاقات أكثر شمولية. وعلى ذلك، أصبحت قدرة الشركة على الابتكار تعتمد على إدارة العلاقات مع هذه الأطراف للحصول على المعرفة والأفكار والموارد الأخرى. هذه هي الطريقة التي تغير بها الابتكار، حيث لم تعد الشركات تركز فقط على البحث والتطوير الداخلي، بل تبحث أيضًا في الخارج لتكون قادرة على التكيف مع تحديات السوق وتلبية احتياجات العملاء وتوقعاتهم.

الابتكار المفتوح كنموذج عمل تجاري

لو انطلقنا من مفهوم الابتكار المفتوح كآداة لتصميم نموذج العمل التجاري سنرى أنه يساعد الشركات على خلق قيمة جديدة بطرق مبتكرة. لقد ساعد الابتكار المفتوح الشركات على استكشاف الجزء المبتكر من الأنشطة والآليات وطرق التعامل مع العملاء لخلق ميزة تنافسية وكذلك علاقات مبتكرة تحقق العوائد والأرباح للشركة.

لذلك، على الشركات أن تفكر في الابتكار ليس فقط كعملية لإنتاج منتجات جديدة توفر به قيمة للعملاء، ولكن أيضًا في الطرق المبتكرة التي تحقق بها هذه القيمة. على سبيل المثال تحالفت شركة تويتا مع شركة تسلا لتطوير سيارات كهربائية مبتكرة باستخدام بطاريات تسلا، بالمقابل وفرت تسلا بعض برمجياتها للمطورين الخارجيين للاستفادة من معرفتهم في تطوير تقنيات جديدة.

كذلك لو نظرنا لمتجر تطبيقات آبل، فهي مثال آخر على تطبيق مفهوم الابتكار المفتوح حيث يمكن للمطورين الخارجيين إنشاء تطبيقات وبيعها على المتجر مما يخلق لآبل نظامًا مفتوحًا للابتكار والتطوير المستمر من قبل أطراف خارجية. وعن الابتكار المفتوح مع العملاء، فإن معظم المنصات كأمازون وسبوتيفاي ونتفليكس تستفيد من تفضيلات المستخدمين من أجل توفير محتوى يناسبهم.

كذلك أطلقت شركة ليغو منصة تتيح للعملاء تقديم أفكار لتصميم مجموعات جديدة من الليغو، حيث تقيمها وتحول بعضها إلى منتجات حقيقية ثم تقدم جوائزًا لأصحاب الأفكار المختارة. لذلك عندما ننظر إلى الابتكار المفتوح كنموذج عمل سنجد أن الشركات لديها طرقًا جديدة في ابتكار منتجات وابتكار وسائل تعزز التعاون مع أطراف خارجية. وعلى ذلك، فإن كل عنصر من عناصر نموذج العمل يمكن الابتكار فيه بالاستفادة من الموارد الداخلية والموارد الخارجية.

ما الفرق بين الابتكار الرقمي والابتكار المفتوح؟

باختصار، يتمحور الابتكار المفتوح حول عملية التعاون والمشاركة بين مجموعة من الأفراد والمؤسسات لتطوير أفكار جديدة وحلول مبتكرة، حيث تتبادل المعرفة والخبرات والمصادر المفتوحة بين الأطراف المشاركة وتُعزز الشفافية والتعاون لتحقيق نتائج أفضل. أما الابتكار الرقمي فهو يعتمد بشكل أساسي على استخدام التقنيات في عملية الابتكار وتطوير المنتجات. لذلك يمكننا القول بأن الابتكار الرقمي عزّز الابتكار المفتوح لأنه يقدّم تقنيات مبتكرة تدعم الوصول إلى الأفكار والمصادر المفتوحة، والاستفادة من المواهب الخارجية، والتنسيق مع الكيانات ذات العلاقة بالسوق، مما يضمن تفاعلًا مستمرًا بين أطراف خارجيين يساهمون في عملية الابتكار.

لقد غيّر الابتكار الرقمي طريقة تبادل هذه الموارد وتشارك المعرفة، وإن الكثير من المفاهيم حول الابتكار في سياق الشركات الناشئة مرتبطة بهذه الفكرة، مما جعل الابتكار المفتوح الآن معيارًا لنجاح الشركات الناشئة وأحد أهم الإمكانات لتعظيم فوائدها، وهذا يؤكد ماذكرته البروفيسورة أناليتا في أن الابتكار داخل حدود الشركة وحده لا يكفي وإنما بتبادل المعرفة والتي أصبحت البنية التحتية التي يُبني عليها الابتكار.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى