مقالات

ما الذي يحدث في سوق المنصات الرقمية؟

من يدرك تأثير التقنيات الرقمية سيجد أنها لا توفر حلولًا، فحسب وإنما تعيد تشكيل السوق. وما حدث من خلال الرقمنة “Digitization” هو أن الأسواق الرقمية أصبحت أكثر نموًا، وبذلك تولد قيمة لمجموعة من الأطراف المشاركين في السوق.

ذكرت في المقال السابق أن اقتصاديات الشبكة تُسهم في توسع الشركات الناشئة من خلال تضاعف عدد المستخدمين، بالوقت الذي تجعل السوق أقل تنافسية بسبب تحديات الدخول في هذه اللعبة. ولكن أيضًا هناك شيء آخر مرتبط باقتصاديات الشبكة، حيث أدى بناء العديد من الحلول الرقمية التي تعتمد على هذا المفهوم إلى تشكيل ما يسمى بالمنصات “Platforms”. هذه المنصات لها آليات محددة حيث تقوم على التفاعل بين أطراف مختلفة لتوليد القيمة، وهي بذلك تستغل جزءًا من مفهوم اقتصاديات الشبكة.

سأوضح في هذه المقالة ما هي المنصات؟ وكيف تعمل؟ وما هو دور التقنية في إنشاء علاقة بين أطراف مختلفين؟ وما هي آلية توليد القيمة لهذه الكيانات التجارية الرقمية؟

كنت مرةً أتحدث في اجتماع مع زميلاتي عن الرقمنة والمنصات ويبدو أنني كررت كلمة platforms كثيرًا للدرجة التي أثارت انتباه طفل إحدى الزميلات في السابعة من عمره فسأل أمه مقاطعًا: ايش يعني بلاتفورم؟ قالت له: منصة. ثم سأل: يعني الستيج الذي نتحدث فيه أمام جمهور؟

توقفت برهةً وأدركت أن تبسيط المفاهيم الصعبة بحيث تكون مفهومة لغير المتخصصين والأطفال كذلك هي مهمة ليست باليسيرة. وفي الوقت الذي كنت أحاول أن أجيب على تساؤل الطفل؛ أدركت أنه لا توجد طريقة محددة لتعريف المنصات. بل هناك خصائص مختلفة ونماذج وأنظمة مختلفة يمكن أن يطلق عليها منصات. ولكن ما يميزها جميعًا أنها حلولًا قادرة على تنفيذ سلسلة من الإجراءات بطريقة غير مقيدة بشكل صارم.

سأذكر على سبيل المثال قصة تطوير Linux من ناحية تقنية. كانت هناك قيودًا تقنية للمساهمة في بناء النظام حيث يجب أن يتوافق معهم، وكانت آلية التنسيق kernel هي نواة نظام التشغيل التي قدمتها لينوكس. لكن تطوير النظام فيما بعد تُرك مفتوحًا للجميع، وأصبحت كتابة البرمجيات ليست محددة ومقيدة بشكل صارم بل متاحة ضمن تعليمات محددة لتنسيق آلية التطوير، وهذا شكّل مجتمعًا من المبرمجين لتطوير برمجيات مفتوحة المصدرعلى ما يسمى بنظام أو منصة لينوكس.

ومن وجهة نظر تجارية، وهي التي أجبت فيها على هذا الطفل؛ قلت إن المنصات هي أماكن، حيث تجري التبادلات التجارية بين جهات فاعلة مختلفة، لذلك يمكننا أن نعتبر المنصة سوقًا. الجميع يعرف ماذا نقصد بالسوق؛ حيث التقى الناس منذ القدم في العصور الأولى لتبادل المنافع في مكان حقيقي يسمح بالتفاعل وتبادل السلع والمنتجات في تلك المرحلة، وليس الخدمات. اليوم تؤدي المنصات نفس الفكرة التقليدية وهي “التبادل” ولكن مع التقدم التقني، أصبحت العملية أكثر تنسيقًا وشملت السلع والخدمات كذلك، ولم تقتصر على البيع وإنما على إدارة علاقات وكيانات كبيرة من الموردين أو الشركاء أو العملاء.

أما من وجهة نظر خلق قيمة ابتكارية، فإن الهدف الاستراتيجي الرئيس للمنصة يتمثل في إنشاء مجموعة من آليات التنسيق التي تدعم وتمكن التفاعل بين مختلف الأطراف. لذا فإن هيكلة المنصة قائمة على توفير بنية تحتية تشاركية مفتوحة تدعم التفاعلات من خلال إتاحة المشاركة وتنسيق الأنشطة الاقتصادية لمختلف الأطراف.

مثال على شركات تقليدية تعمل كمنصة متعددة الأطراف:

لو استحضرنا منصة تعمل بطريقة تقليدية لتبادر إلى الذهن الصحف والمجلات، صحيفة الجزيرة والرياض على سبيل المثال كانتا تدفعان أموالًا للكُتّاب لنشر مقالات تحظى باهتمام الجمهور، وكلما كانت المقالات أكثر إثارة لاهتمام القراء، ازداد عددهم. شراء الصحيفة أو المجلة هو في الحقيقة مدفوعات، وهذا سيجعل المجلة أيضًا مكانًا جاذبًا للإعلانات. وهذا نموذج العمل التجاري للمجلات والصحف التقليدية القائم بشكل أساسي على تكوين جمهور متفاعل. وهو مايحدث في مراكز التسوق أيضًا، إنهم ينشئون جمهورًا كبيرًا للأشخاص الراغبين بالبيع، لذا فهم يعملون كمجال تجاري للجمع بين الأطراف. إذا فكّرنا بهذه الطريقة فسيكون من السهل فهم كيفية توليد القيمة التي تتم من خلال الوساطة بين أطراف ينشأ بينهم تفاعل حقيقي.

أما في المنصات الرقمية، فإن نجاح هذه الأعمال يرتبط باستراتيجيات غير تقليدية تساعد هذا النموذج على توليد المزيد من القيمة الفعلية والتنافسية كذلك. ونظرًا لأن الهدف الأساس هو تسهيل المهمة للأطراف، فإن الخصائص الرئيسة لهذه المنصات جذب المزيد من الأطراف المتفاعلين والحفاظ على تفاعلهم بطريقة جذابة لكليهما، وهذا هو المحك. التحدي والصعوبة يكمنان في كيفية إنشاء آلية لتوليد قيمة لكلا الطرفين.

ربما قد سمعتم كثير من الأشخاص يقولون: لدي فكرة تطبيق تشبه أوبر..

إن فكرة التطبيق التي تشبه أوبر والمقصود بها منصة رقمية تسمح بالتفاعل لا تستمد قيمتها من مجرد الفكرة.. فكرة المنصة، بل من خلق هذا المجتمع وتسهيل الحصول على الخدمات فيما بينهم والاستمرار بدعمهم والاحتفاظ بهم، وهذا هو التحدي الذي ذكرته في المقالة السابقة حين ذكرت مفهوم الـ critical mass فانخراط الأطراف في تفاعل ما هو ما يجعل المنصة فاعلة وبالتالي ناجحة. أما التحدي الآخر للاحتفاظ بكلا الطرفين هو وجوب أن تكون المنصة محايدة قدر الإمكان. لأنه إذا تم إدراك وجود انحياز من طرف واحد، فسوف تفقد المنصة الطرف الآخر. وإذا فقدت الطرف الآخر فقد ينتهى العمل التجاري.

هناك أيضًا منصات رقمية أخرى تركز على تعزيز التجارة غير الإلكترونية، شبكات التواصل الاجتماعي على سبيل المثال (يوتيوب، سنابشات، تيك توك، تويتر، فيسبوك). كل هذه الشركات قدمت حلولًا تقنية فعالة لإثراء التفاعل بين المستخدمين. هذه الشركات لا تُقدّر قيمتها لأنها تمتلك رأس المال أو الموارد البشرية، وإنما بالمستخدمين الذين يشاركون في الأعمال من خلال نشر المحتوى ومشاركته فيما بينهم. وهذا يفسر سبب تركيز كل هذه الشركات على استراتيجيات ذكاء الأعمال وتحليل بيانات المستخدمين للمساعدة في جودة وكمية التفاعل. لذا فإن المنصات الرقمية هي في النهاية آلية تنسيق مبتكرة، مع بعض الترتيبات المصممة لدعم هذه العلاقات.

فلا توجد وجهة نظر موحدة حول ما هية المنصات، وكيفية إدارتها، وتحسين القيمة الناتجة عنها. وإنما هي باختصار تكوين تقني ومؤسسي هدفه الرئيس تسهيل المهمة بين عدة أطراف من خلال خلق الظروف والحلول المثلى لربط أكبر عدد ممكن من الأشخاص حيث ينتج بينهم تفاعل يضمن القيمة التي تولد التقييم والعوائد. ولهذا السبب نقول إن المنصات الرقمية لا تفعل الكثير لتحسين الخدمة بل لخلق هذا المجتمع، وهذا يعد تحولًا كبيرًا سمح به الاقتصاد الرقمي في تحويل القيمة من داخل حدود الشركة وجعلها بأيدي أطراف متفاعلين بالخارج، الأمر الذي ألهم العديد من الشركات الناشئة للتفكير بالتقنية بطريقة مختلفة.

أخيرًا وليس آخرًا، لا تعمل المنصات الرقمية على تسهيل العلاقة بين الأطراف فحسب، وإنما تُغير شكل وحجم السوق حيث تسمح بخلق فرص مبتكرة للاعبين جدد يعملون كوسطاء للتنافس في خلق كيانات جديدة تولد  قيمة لأطرافٍ مختلفة وتسهل بذلك أعمالهم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى